عيد الغدير في العرفان العلوي: فلسفة الولاية والوجود (2-4)

 


في تاريخ الفكر الإسلامي، يظلُّ عيد الغدير حدثًا مفصليًا أثار تأويلات متعددة، تراوحت بين السياسي والديني، العقائدي والروحي. إلا أن العرفان العلوي يقدِّم قراءة متفردة لهذا الحدث، لا بوصفه إعلانًا سياسيًا فحسب، بل بوصفه كشفًا أنطولوجيًا عن بنية الوجود ومسار الخلاص.

هذا البحث يحاول الغوص في أعماق تلك الرؤية العلوية، حيث تتحوّل الولاية إلى فلسفة كاملة، ويتجلى الغدير لا كمناسبة طقسية، بل كنموذج كوني يُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان، والنبوة، والحقائق الكبرى.

إنه رحلة فكرية-عرفانية، تُعيد تفسير النصوص، وتُقارن بين المدارس الفلسفية، وتُنقِّب في شخصيات مثل علي وسلمان بوصفهم تجليات نورانية، لا رموزًا تاريخية فحسب.


الغدير كحدث ميتافيزيقي

تخرج لحظة "غدير خم" من سياقها الزمني، في العرفان العلوي، لتتموضع ضمن نسق ميتافيزيقي مستمر، يتجاوز التوثيق التاريخي ويغوص في طبقات الرمز والحقيقة. هذا الفصل يستعرض التحوّل التأويلي الذي يجعل من الغدير إعلانًا أنطولوجيًا عن الولاية، ويكشف كيف تتجسد بنية الثالوث (محمد – علي – سلمان) كترتيب وجودي لفهم العلاقة بين الله والإنسان.


الغدير في المصادر الدينية والتاريخية

في مساءٍ من صيف العام العاشر للهجرة، ارتفعت يد الإمام علي إلى السماء بأمر النبي، وتردد الصدى: "من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه." المصادر السنية والشيعية كالمسند للحنبلي والكافي للكليني تؤكد هذا المشهد، وتربطه بنزول آية {يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك}، وتُتبعه بآية {اليوم أكملت لكم دينكم}.

لكن القراءة العرفانية لا تكتفي بالسرد، بل تُفكك اللغة بوصفها رموزًا:

خطبة النبي تمثّل "اللوغوس"، الكلمة التي تعلن تجلي الحقيقة. واستخدام "مولى" لا يُفهم سياسيًا فقط، بل كمقام في الوجود، يشير إلى الحافظ والنور والقطب الجامع.


التفسير العرفاني للغدير

الغدير، في العرفان العلوي، ليس مناسبة، بل لحظة انكشاف. إنه إعلان عن الحقيقة الأزلية – أن الولاية لعلي هي الميثاق الكوني الذي سبق خلق السماوات والأرض. آية {ألستُ بربكم؟} تجد تأويلها هنا، في الانتقال من النبوة إلى الولاية.

في هذا التصور، تصبح الولاية:

وسيلة للخلاص المعرفي. وطاقة نورانية تُعيد التوازن للوجود. ثم نقطة التقاء بين الزمن المقدس والتاريخ المرئي.

إنه الحدّ بين الوعي الديني والوعي الأنطولوجي، حيث يصير الغدير "حدثًا متجددًا" يُعاد في الوعي الطقسي للمؤمن، لا مرة واحدة فقط.


الغدير والثالوث المقدس (ع - م - س)

تُعيد الفلسفة العلوية بناء الحدث عبر نموذج ثلاثي ميتافيزيقي:

محمد (م) يمثّل الظاهر، الشريعة، النبوة.

علي (ع) هو الباطن، الحقيقة، الولاية.

سلمان (س) هو الباب، الوسيط، المعرفة العملية.

هذه المراتب لا تعمل كشخصيات، بل كنظام فيض يتدفق من الواحد إلى الخليقة، حيث سلمان يكون رابطًا بين العقل والنفس، كما في تأويلات أفلوطين. وهم يشكّلون وحدة معرفية متكاملة، هي "النموذج الكوني" الذي يُعاد تشكيله في الغدير.

من خلال هذه البنية، يتحول عيد الغدير إلى مرآة فلسفية:

تعكس ترتيب الحقيقة. وتفتح بابًا للاتصال الإلهي. وتُجسّد فعلًا رمزيًا يُعيد التوازن إلى العلاقة بين الظاهر والباطن.


  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
Amjad Ali Nayouf

عدد المقالات:

شاهد ايضا × +
إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق

X
ستحذف المقالات المحفوظة في المفضلة ، إذا تم تنظيف ذاكرة التخزين المؤقت للمتصفح أو إذا دخلت من متصفح آخر أو في وضع التصفح المتخفي